السبت، 28 يوليو 2012

الفصل الرابع طرق معالجة البطالة والتسول في القوانين الوضعية المعاصرة وفي السنة النبوية

طرق معالجة البطالة في القوانين الوضعية المعاصرة

     لقد عالجت القوانين الوضعية المعاصرة البطالة عن طريق ما يسمى بالحماية الاجتماعية، أو ما يسمى بالضمان الاجتماعي، وهذا يقوم على مفهومين:

1)   العدل التبادلي أو العدل الحسابي (الضمان بمقابل): بمعنى أنه لابد للعامل من دفع اشتراكات معينة، تحسب على أساس نسبة مئوية من دخل العمل، وهذا المفهوم هو الذي يشكل القاعدة الكلية أو القاعدة العامة.

2)      العدل التوزيعي أو العدل العام: وهو الذي لا يقوم على فكرة المقابل، ولكن يقوم على فكرة الحجة، وهذا يجسد فكرة التكافل الاجتماعي.

     وهذا التمويل أى تمويل أعباء الضمان- يعتمد في موارده على الأعباء الضريبية المفروضة على الشعب، بحسب الأعمال، أو رؤوس الأموال (1).

     وهناك من الدول، من يميز في إطار الحماية الاجتماعية بين نظامين:

(1) انظر: المبادئ القانونية للتأمين الاجتماعي (ص56)، والوسيط في التأمينات الاجتماعية (ص111 وما بعدها).

I)            النظام الذي يقوم على فكرة العدل التبادلي، ويسميه تأميناً اجتماعياً.

II)          والنظام الذي يقوم على العدل التوزيعي، ويسميه بالمساعدات الاجتماعية العامة.

     وهذان الاثنان يسميان بالضمان الاجتماعي، كما هو في القانون المصري والفرنسي (1) وبعض الدول كنيوزيلندا- تقيم الحماية في مواجهة الأخطار الاجتماعية ذات التأثير على الدخل- على فكرة العدل التوزيعي العام، ويسمي ذلك النظام بالضمان الاجتماعي (2).

     وقد وضع القانون الوضعي شروطاً للتأمين الاجتماعي ضد البطالة كثيرة (3). نذكر أهمها:

1-    أن يكون العطل القائم بالعاطل غير إرادي.

2-    أن لا يجد العاطل عملاً مناسباً.

3-    أن يكون مسجلاً لدى الجهة الإدارية المختصة بالرقابة على شئون التخديم، أى التوظيف.

4-    أن يكون قد تم تسديد الاشتراكات عن مدة الخدمة السابقة.

5-    أن يكون قد باشر العمل خلال مدة معينة، كحد زمني أدنى من أجل استحقاق التعويض، وهذا يختلف فيه الأمر من دولة إلى أخرى (4).



 

(1)     انظر: المبادئ القانونية للتأمين الاجتماعي (ص15 وما بعدها).

(2)     انظر: المرجع السابق (ص20).

(3)     انظرها في كتاب قانون التأمين الاجتماعي الصادر في مصر بالقانون رقم 79 لسنة 1975م (ص61 وما بعدها).

(4)     انظر بالتفصيل كتاب المبادئ العامة للتأمينات الاجتماعية وتطبيقها في القانون المقارن (ص793 وما بعدها).

     فالحماية ليست مرتبطة بوجود أو باستمرار حالة البطالة، وإنما تنقضي في مدة محدودة، وبعد انقضاء المدة الاستحقاقية للعاطل طبقاً لنظام التأمين الاجتماعي للبطالة بمكن بعد ذلك- أن ينتقل الحق فيه في التعويض إلى نظام آخر يسمى بالمساعدات الاجتماعية العامة، الذي يقدم التعويض فيه على فكرة التكافل الاجتماعي، أى على فكرة العدل العام، أو العدل التوزيعي، وهذا النظام، من أجل ثبوت الحق فيه لابد أن يكون العاطل من أصحاب الحاجات.

     ومما يجدر التنبيه إليه: هو أن استحقاق التعويض في الأنظمة الوضعية للبطالة، لا ينظر فيه إلى حاجة العامل، يعني أن تعويض البطالة في إطار التأمين الاجتماعي يثبت الحق فيه متى توافرت أو قامت حالة التعطل، أيا كانت الحالة الاقتصادية للعاطل (1).

 

المبحث الثاني:

نقد طرق معالجة البطالة في القوانين الوضعية المعاصرة

1)   إن معالجة البطالة عن طريق التأمين الاجتماعي، أو ما يسمى بالمساعدات الاجتماعية، من غير تربية لملكة التقوى والمراقبة، يفتح الباب لزيادة حجم العاطلين؛ لأن كل واحد يجد فرصة أن يعلن عن نفسه أن متبطل أو عاطل، وهذا منفذ قانوني له، إذ أنه سيعلن عن ذلك، طالما أنه ليس عنده رقابة ذاتية لله تعالى.

     وهذا الذي تقوم عليه الأنظمة الوضعية كلها بلا استثناء؛ لأنها تنسى أو تتناسى قضية إشعال المراقبة الذاتية، أو إشعال مراقبة الإنسان لنفسه عن طريق أن الله يسمع ويرى، فهم لا ينظرون إلى هذا إطلاقاً، ولذلك من السهل جداً أن يقول أحدهم: أن عاطل، أو متبطل، ويجد ثغرة في القانون تساعده على ذلك.

(1) انظر تفصيل ذلك في كتاب فقد الدخل للدكتور حسن قدوس (ص140-178).

     وأما في النظام الإسلامي، فتبقى قضية المراقبة لله هي الأساس في كل شئ، في المعاملات وفي غيرها، فإن المسلم لا يجيز لنفسه أن يقول أنا عاطل، استحق حقوق البطالة، وهو ليس كذلك، أو يقول: أنا محتاج وهو ليس كذلك؛ لأنه يخاف أن يأخذ مالاً ليس له، فيكون سحتاً، فيأكله حراماً، فيعاقبه الله يوم القيامة على ذلك، فهذا الوازع الديني تفتقده الأنظمة الوضعية.

2)   إن تمويل أعباء الضمان الاجتماعي على الضرائب المفروضة على الشعب بحسب الأعمال أو رؤوس الأموال: مبدأ مرفوض في الإسلام أصلاً، لأن هذا النظام سيولد الأحقاد والضغائن بين أفراد المجتمع، فالغني يعطي الضريبة على أنها شئ مفروض عليه بغير وجه حق، ولو استطاع الفرار منها أو الهروب لفعل؛ لأنه يعطي للآخرين من غير طواعية، ومن غير شعور بأنهم إخوة له في الله تعالى، وأنه يجب أن يعيشواً كما يعيش، ويحب لهم ما يحب لنفسه، كما قال r (1): )لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه(، وأنه عندما يعطي فإلإن له بذلك أجراً، أما في ميزان الضرائب المفروضة، فإنه يعطي وهو كاره، ويتمنى أن يموت كل محتاج حتى لا يعطي ما عنده، والكراهية بين أفراد المجتمع تولد الفرقة.

     بينما في النظام الإسلامي، تؤخذ الزكاة على أنها عبادة وتدين، وأنها مسئولية، سيحاسبه الله عليها، كما قال r: )لا تزول قدما عبد (يوم القيامة) حتى يسأل عن أربع فذكر منها-: وعن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه((2). فهو عندما يعطي يكـون

(1)    رواه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان- باب من الإيمان: أن يهب لأخيه ما يحب لنفسه (حديث 13)(1/78)، ومسلم في صحيحه في كتاب الإيمان- باب من خصال الإيمان: أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك (1/78) كلاهما من حديث أنس، واللفظ للبخاري.

(2)     رواه الترمذي في جامعه: الباب الأول من أبواب صفة الجنة (حديث 2532) من حديث أبي برزة الأسلمي، وقال: (هذا حديث حسن صحيح).

عطاؤه عن طواعية، وعن طيب نفس، ولا ينظر إلى حالة الفقير، وإنما ينظر إلى رضوان الله تعالى، ويريد أن يخرج من الدنيا، لا له ولا عليه، ويتمنى أن يأتيه في كل يوم فقير، ويبحث كل يوم عن فقير، بل ويكلف الناس بأن يدلوا الفقراء عليه، حتى يعطيهم من مال الله الذي أنعم عليه؛ ليبقى محافظاً على الأجر والثواب، وهو بذلك يسد حاجة أخيه ويمنعه من ذل نفسه.

3)   إن الشروط المطلوبة لإعطاء الدولة العاطل ما يسمى بالتأمين الاجتماعي فيها شئ من التسيب أحياناً، وفيها شئ من التعنت أحياناً، فمثلاً قولهم: إنه لابد أن يقضى فترة زمنية في الخدمة التي كان يؤديها حتى يستحق المعونة الاجتماعية، فماذا يقولون في إنسان نزلت به كارثة لأول يوم في العمل؟.

     فالشارع ينظر إلى هذا على أنه محتاج، يستحق المساعدة، لكن القوانين الوضعية المعاصرة تهمل هذا الجانب، وكأنه شئ لم يكن، فتحوله إلى بند المساعدات الاجتماعية. ومعنى هذا البند: أنها ستعطيه شيئاً من الفتات الذي لا يقضي حاجته، ولا يستطيع أن يعيش به، وذلك بحجة أنه لم يقض الفترة الزمنية في الخدمة.

4)   وأما قولهم في شروط واستحقاق تعويض البطالة: أن لا يجد عملاً مناسباً، فهذا ثلم في القانون الوضعي، وكأنه بذلك وسع دائرة البطالة، بدلاً من أن يعمل على تضييقها، ويعالجها علاجاً يتمشى مع المنطق السليم والحق الأبلج، وهذا سيضطر كل من لا يجد عملاً مناسباً أن يقعد مع القاعدين الذين يرجون رحمة العالمين، والذين يتربصون العمل المناسب، وقد لا يجدون.

     وأما في النظام الإسلامي، فالمسلم لا يقول هذا؛ لأن عليه أن يعمل من غير فرق بين عمل نفيس مناسب، وبين عمل وضيع دنئ، فهو يعمل في أى شئ، طالما أن هذا العمل الذي يعمله مباح، يعمل صانعاً أو مزارعاً أو عاملاً عند الناس، والمسلم الحق هو الذي لا يأنف من ذلك؛ لأن هذا عنده خير من أن يتسول أو يتبطل، ويدخل في سجل العاطلين أو المتبطلين والمتسولين، ويحفظ لنفسه ماء وجهه، وعزته، وكرامته، وعفته.

5)   وأما ما اشترطوه لاستحقاق تعويض البطالة: أن يكون مسجلاً ضمن ما يسمى ببند طلب الوظائف، فهذه وسيلة من وسائل المساعدات على إيجاد عمل له، لكن لا بأس أن يبحث بنفسه، وأن لا يقعد منتظراً هذا البند، لأنه لو وظفت الحكومة كل الناس، فأين الأعمال الحرة التي تولد التفكير، وتولد بذل الجهد وبذل التعب؟، ولعله يسأل هنا وهناك، ويذهب إلى أصحاب العمل، ويطلب منهم، فليس بلازم ولا بشرط- أن يكون اسمه مسجلاً.

     إن المسلم في النظام الإسلامي، يعطي حد كفايته وحاجته، حتى يجد عملاً، وحتى لو لم يكن الحاكم يعلم أنه محتاج إلى وظيفة، ويدلنا على ذلك أمران:

        ·          أولاً: دينه وتقواه وورعه.

        ·          ثانياً: شهادة أهله بذلك، يشهد ثلاثة من أهل الحجا: أنه نزل به فقر وحاجة أو فاقة، فعندئذ يبحث له عن عمل، أو يساعد في حدود حاجته.

6)   وأما الشرك الآخر، وهو يكون قد تم تسديد الاشتراكات عن الخدمة السابقة فنقول: إن هذا لا يعرف في النظام الإسلامي، فالشارع الحكيم يعطيه حتى لو لم يسدد اشتراكاً.

     إن بند تسديد الاشتراكات في النظام الاجتماعي الوضعي بند فاسد، لأنه يأخذ ويستثمر هذه الأموال استثماراً ربوياً، فيأخذ المباح، ويخلطه بمال الربا، فيعود عليه عائد من السخت، والحرام.

     وأصحاب الأعمال يجب عليهم أن يوفروا الحماية للعامل، حتى ولو لم يدفع شيئاً ويعتبر هذا جزءاً من الضمان، وهو توفير الحاجة للعامل وكفالته، إذ نزل به ضرر، وكفالة أسرته، ويعتبر هذا جزءاً من الراتب، فكأنه كان يعطي عشرة، والتأمين في النهاية- كأنه يساوي خمسة، فكأن راتبه خمسة عشر، خمسة منها ترد عليه يوماً ما، لكن كونه يعطيه العشرة، ثم يعوم فيخصمها عليه، فهذا ظلم من أصحاب الأعمال للعاملين عندهم، فضلاً عن تلطيخ هذا المال بالربا.

     هذه القضية في حقيقة الأمر من أخطر ما يمكن، والدول الإسلامية لا مجال فيه لفلس واحد حرام، فأموالها تأتي من طريق مشروع، والربا فيها محظور.

     إن مبدأ تسديد الاشتراكات مرفوض جملة وتفصيلاً في النظام الإسلامي، لأنه لون من ألوان أكل أموال الناس بالباطل، والأنظمة الوضعية بذلك تحمل الناس على أكل الحرام بكل أنواعه، وصوره، وأشكاله.

7)   وأما قضية استحقاق التعويض للبطالة، بأنه لا ينظر فيه إلى شخص العاطل وحاجته إلى التعويض، فإذا ما وجدت البطالة، فالعاطل مستحق للتعويض، سواء أكان غنياً أم فقيراً، وهذا في الواقع ضعف في القانون الوضعي، إذ كيف يعطي المتبطل الغني الذي عنده ثراء بإرث أو بكسب قديم أو حرفة من الحرف؟، فهذا سيزيد مشكلة البطالة، وتتوسع دائرتها، وذلك بالتأثير على حال الفقير وزيادة أموال الأغنياء على حساب الفقراء، وهذا باطل، مخالف لدين الله تعالى، ولو كانت هناك تقوى الله عز وجل، فلا يعطي له هذا المال، لأنه كسب غير مشروع، ولامتنع عنه المعطي له؛ لأنه يخاف الله من أن يأكل ملاً ليس له، فيكون حراماً، كما كان يعرض المال على المسلمين الأوائل فيرفضونه؛ لعدم حاجتهم إليه؛ ولالتزامهم بحد الكفاية، ولشعورهم بإخوانهم المحتاجين، فتقوى الله هي التي تفصل في هذه المسائل، والقانون الوضعي لا يهمه هذا الجانب من التقوى بالمرة، وهذا خلل كبير وفساد عظيم.

الخلاصـة

     إن القانون الوضعي فيه ثغرات كثيرة، على النحو الذي قدمنا، على حين أن النظام الإسلامي:

1-    يربي ملكة المراقة وتقوى الله عز وجل، فيغرس في نفس المسلم وازعاً دينياً، ينبهه إلى الأخذ بالحلال وترك ما حرم الله ورسوله r .

2-    يحمل المسلم على أن يعمل ولو في المهن الوضيعة- طالما أنه ليس فيها ما يخالف الدين والشرع.

3-  إن المال الذي تنفقه الدولة في ظل النظام الإسلامي على الناس يأتي من الزكاة، وهي ليست عطاء من شخص لشخص، وإنما هي عطاء من شخص للدولة، والدولة هي التي تتولى ذلك، فيندفع الحرج عن المعطي أو المنتفع.

4-  المزكي يعطي الزكاة يبتغي بذلك الأجر عند الله تعالى، وكذلك عندما يتبرع، أو يتصدق، أو يهب، أو يهدي، أو يعطي، أو يغمر، أو يوقف، أو يوصي بشيء من ماله بعد الموت، فإنه يفعل ذلك بقصد الثواب، فينفق عن طواعية واختيار، )وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين((1)، وقد أنفق أبوبكر الصديق t كل ماله في سبيل الله، فقيل له: ماذا أبقيت لأهلك؟ فكان جوابه: (أبقيت لهم الله ورسوله)(2).

(1)     سبأ آية (39).

(2)     أخرجه أبو داود في سننه كتاب الزكاة- باب الرجل يخرج من ماله (حديث 1678) والترمذي في جامعة في المناقب- رقم الباب (60)(حديث 3757) كلاهما من حديث عمر.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح).

5-  المسلم في النظام الإسلامي يعطي إذا كان صاحب حاجة، وليس شرطاً أن يعمل الحاكم أو السلطان حاجته، طالما أنه شهد له ثلاثة من أصحاب الدين والعقل بذلك، وكان هو نفسه يتحلى بتقوى الله، فيعطيه الشارع القدر الذي يسد حاجته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق