السبت، 28 يوليو 2012

البطالة في البلدان الصناعية الرأسمالية: نهاية عصر وبداية عصر جديد

قلنا حالا P إن الاقتصاد العا 7ي بجميع أطرافه
قد عايش في عالم ما بعد الحرب العا 7ية الثانية
( ١٩٤٥  ١٩٧٠ ) عصرا 1يز بدرجة عالية من النمو
ا 7زدهر. وكانت مجموعة البلدان الصناعية
الرأسمالية من أقوى الأطراف الفاعلة لهذا النمو
وا 7ستفيدة منه. فخلال هذه الفترة شهدت هذه
البلدان انتعاشا واضحا في تراكم رأس ا 7ال P
وارتفاعا ملموسا في معدلات النمو الاقتصادي P
ودرجة عالية من الاستقرار النقدي P وضآلة واضحة
في معدلات البطالة P وتزايدا ملحوظا في مستويات
الدخول وا 7عيشة P ودرجة عالية من التحكم في
الدورات الاقتصادية P إلى الحد الذي دفع بعدد من
الاقتصادي W إلى الزعم بأن عصر الأزمات
الاقتصادية الكبرى للرأسمالية قد ولى زمانه إلى
غير رجعة( ١). ما بالنا إذا علمنا أن متوسط معدل
النمو السنوي ﻟﻤﺠموعة هذه البلدان قد وصل إلى
حوالي ٤% خلال الفترة ا 7ذكورة P ولم يزد معدل
2
46
الاقتصاد السياسي للبطالة
التضخم السنوي على ٢٬٥ % P ولم يتعد معدل البطالة ٣%.
على أننا إذا بحثنا في هذا النمو ا 7زدهر الذي حقق التوظف الكامل P
والذي اتسم بدرجة عالية من الاستقرار P فسوف نجد أنه يعود إلى العوامل
الجوهرية الآتية P التي Žكن تصنيفها على الصعيد الداخلي P والصعيد
العا 7ي :
أما عن مجموعة العوامل الداخلية P فقد 1ثلت في زيادة معدلات
الاستثمار التي احتاجت إليها عمليات إعادة التعمير والبناء P والتقدم
التكنولوجي الذي حدث في فنون الإنتاج وما أدى إليه من زيادة في الإنتاجية P
وتبني هذه البلدان للكينزية التي اعتمدت على التدخل الحكومي وزيادة
الإنفاق العام في مجالات الضمان الاجتماعي والأشغال العامة واﻟﻤﺠال
العسكري P وهو الأمر الذي وسّع من نطاق الأسواق الداخلية واستقرارها
بضمانه رافدا مستمرا من الطلب الحكومي ا 7رتفع.
أما على الصعيد العا 7ي P فقد توافرت للبلدان الصناعية الرأسمالية
مجموعة من العوامل ا 7واتية P يأتي في مقدمتها آليات بريتون وودز( ٢) (نظام
النقد الدولي الذي حقق ثباتا في أسعار الصرف واستقرارا في أحوال
السيولة الدولية P ومجموعة البنك الدولي التي شجعت حركة الاستثمارات
الدولية P واتفاقية الجات التي استهدفت خفض القيود الجمركية). فكل
ذلك أدى إلى ¥و واضح في التجارة الدولية (تصدير السلع ورؤوس الأموال).
كذلك لا يجوز أن ننسى بقاء ¥ط تقسيم العمل الدولي 7صلحة البلدان
الصناعية الرأسمالية P وهو الأمر الذي أدى لتمك W هذه البلدان من الحصول
على ا 7واد الخام ومواد الطاقة بأسعار رخيصة جدا P في ضوء علاقات
تبادل غير متكافئ مع البلاد النامية. أضف إلى ذلك أن وجود مجموعة
البلاد التي كانت »اشتراكية « في تلك الآونة P قد خلق نوعا من التنافس
السلمي ب W النظام W الرأسمالي والاشتراكي P وعلى النحو الذي منح كلا
منهما زخما واضحا.
على أن هذا العصر P ذا النمو ا 7زدهر P سرعان ما انتهى عند مشارف
السبعينيات ليبدأ عصر جديد P شديد الاضطراب والتوتر P ويتسم بوجود
أزمة اقتصادية مستمرة. ولكن... ما الذي حدث  بالضبط  عند بداية
حقبة السبعينيات وعجل بانتهاء عالم ما بعد الحرب P الذي تحقق فيه
47
البطالة في البلدان الصناعية الرأسمالية
التوظف الكامل P وليحل بعد ذلك عصر Žكن وصفه بعصر البطالة ا 7ستمرة?
ها هنا P نجد أنه منذ نهاية الستينيات P بدأت تحدث في هذه البلدان
تغيرات مهمة جدا ومشكلات جديدة لم تعرفها في عالم ما بعد الحرب P
حيث بدأت معدلات النمو الاقتصادي في التراجع P وزادت معدلات البطالة
والتضخم في آن واحد (ظاهرة الركود التضخمي Stagflation ) P وزاد العجز
الداخلي (عجز ا 7وازنة العامة) والدين المحلي. وكان جوهر ا 7شكلة يتمثل
في أزمة تراكم رأس ا 7ال الناجمة عن اتجاه معدل الربح في قطاعات
الإنتاج ا 7ادي (الصناعة والزراعة) نحو الانخفاض. وكان من الجلي آنئذ
أن النموذج الكينزي قد كف عن فاعليته في ضمان التوازن الاقتصادي
العام وتخفيف حدة الأزمات الدورية. وفقد التدخل الحكومي مفعوله في
ضمان استقرار النمو وتحقيق التوظف الكامل. وآنذاك نشب صراع فكري
حاد ب W الكينزي W والنيوكلاسيك P وهو الصراع الذي انتهى بهز Žة الكينزية
وانتصار الليبرالية النيوكلاسيكية التي دعا أنصارها إلى نبذ التدخل
الحكومي P والقضاء على دولة الرفاه P والعودة بالرأسمالية إلى آليات السوق
الحرة الطليقة. وهو الانتصار الذي أخذ سبيله نحو التطبيق تحت شعارات
الليبرالية الجديدة P وأدى إلى وصول اليم W ا 7تطرف إلى قمة الحكم في
كثير من هذه البلدان( ٣). وقد أثرت الليبرالية الجديدة في تفاقم مشكلة
البطالة كما سنرى لاحقا.
وعلى الصعيد العا 7ي كانت منظومة الاقتصاد الرأسمالي العا 7ي تشهد
مجموعة من التغيرات الجوهرية التي عصفت بالآليات ا 7يسرة التي توافرت
للرأسمالية في عالم ما بعد الحرب P ولتشكل عناصر اضطراب قوية في
طريقة أداء الرأسمالية على صعيدها العا 7ي. وكان لذلك علاقة قوية بتفاقم
مشكلة البطالة في البلدان الصناعية.
وقد 1ثلت أهم هذه التغيرات فيما يلي :
١  انتهاء عصر ثبات أسعار الصرف وتحلل نظام النقد الدولي P بعد أن
تخلت الولايات ا 7تحدة عن قابلية تحويل الدولار إلى ذهب في أغسطس
P١٩٧١ والدخول إلى مرحلة التعو ® Floating وفوضى أسواق النقد الدولية.
وقد شكل ذلك عنصر اضطراب شديد في ا 7عاملات الاقتصادية الدولية P
ولا يزال مستمرا حتى كتابة هذه السطور.
48
الاقتصاد السياسي للبطالة
٢  القرار الشجاع الذي اتخذته مجموعة الأوبك برفع أسعار النفط P
وذلك من خلال صدمت W سعريت W في عام ٧٣ / ١٩٧٤ وعام ٧٩ / P١٩٨٠ وهو
الأمر الذي أنهى عصر الرخص الشديد للطاقة. وقد سبب ذلك زلزالا قويا
في اقتصاديات الطاقة بالعالم الرأسمالي. كما ولد ولأول مرة في التاريخ
مشكلة فائض مالي ضخم (الفوائض النفطية) والذي سارعت البنوك
التجارية دولية النشاط P ومعها في ذلك صندوق النقد الدولي P لإعادة تدويره
في شكل قروض للدول التي حققت عجزا في موازين مدفوعاتها.
٣  تباين علاقات النمو اللامتكافئ ب W كبريات البلدان الصناعية
الرأسمالية وتغير مواقع القوى النسبية الفاعلة في الاقتصاد العا 7ي التي
كانت 1يز عالم ما بعد الحرب. فمجموعة دول غرب أوروبا واليابان يتزايد
وزنها النسبي في الاقتصاد العا 7ي على حساب تراجع الوزن النسبي للولايات
ا 7تحدة P وبدء ظهور علاقات صراع وتوترات اقتصادية ونقدية فيما بينها.
٤  تعاظم العو 7ة Globalization التي قادتها الشركات العملاقة دولية
النشاط. وقد نجم عن ذلك ¥و واضح ومستمر في عمليات تكامل الإنتاج
والتمويل والتسويق على جبهة العالم كله. وأصبح نشاط هذه الشركات P
بتخطيها الحدود الإقليمية P سمة جوهرية للاقتصاد العا 7ي. وكان لنشاط
تلك الشركات علاقة واضحة بانتقال كثير من الصناعات ذات الكثافة
النسبية ا 7رتفعة في عنصر العمل للاشتغال في البلاد الأخرى P ذات الأجور
ا 7نخفضة P ˆا كان له تأثير واضح في بوار هذه الصناعات وتفاقم بطالة
عمالها.
٥  اضطراب أحوال السيولة الدولية بعد النمو الهائل الذي حدث في
اندماج وتوسع أسواق ا 7ال العا 7ية P وهو الأمر الذي كان مصحوبا بتغيرات
عميقة في تركيبة التدفقات ا 7الية من هذه الأسواق P مثل تزايد الدور الذي
أصبحت تلعبه البنوك التجارية في الإقراض الدولي P وبروز نظام القروض
ا 7شتركة PSyndicated Loans وتعاظم حجم السوق الأوروبية للدولار Eurodollar
وبنوك الأفشورز. وكل ذلك تعاصر مع تخفيف القيود على الصرف الأجنبي
وا 7عاملات ا 7الية الخارجية تحت دعاوى »التحرير ا 7الي «. وقد نجم عن
ذلك تضخم شديد في مقادير السيولة الدولية P وأصبح رأس ا 7ال العا 7ي
ينمو ويتحرك دون أن تربطه صلة وثيقة بعمليات الإنتاج وحاجات التمويل
49
البطالة في البلدان الصناعية الرأسمالية
الفعلي للتجارة. كما خلق ذلك ما يُسمى »بالاقتصاد الرمزي « الذي تتداول
فيه مختلف أشكال الثروة ا 7الية (كالأسهم والسندات P وأذون الخزانة وصكوك
ا 7ديونية وشهادات الإيداع...) والذي أصبح منفصلا 1اما عن الاقتصاد
الحقيقي (عمليات الاستثمار والإنتاج والاستهلاك) وبطغيان طابع ا 7ضاربات
فيه. وبعد أن كان تزايد الأرباح في عالم ما بعد الحرب يترافق بتزايد
عمليات الاستثمار والإنتاج والتشغيل P أصبح الربح الأساسي للشركات يتحقق
الآن من عمليات ا 7ضاربة على أسعار الصرف الأجنبي P وعلى الصكوك
ا 7تداولة في بورصات الأسواق ا 7الية P ودون أن يكون لذلك علاقة بعمليات
الإنتاج والتشغيل.
٦  تفاقم علاقات العجز والفائض ب W مراكز الدول الرأسمالية الصناعية
(أمريكا تجاه أوروبا واليابان والنمور الأربعة) من ناحية P وب W هذه ا 7راكز
والبلاد النامية من ناحية أخرى . وقد أدى ذلك إلى نتيجت W مهمت W ستؤثران
في الاقتصاد العا 7ي P الأولى: تحول الولايات ا 7تحدة الأمريكية إلى دولة
مدينة لأول مرة في تاريخها ا 7عاصر منذ الحرب العا 7ية الأولى. والثانية:
هي نشوء أزمة مديونية خارجية شديدة ﻟﻤﺠموعة البلاد النامية.
٧  النجاح الباهر الذي حققته مجموعة الدول ا 7صنعة حديثا في جنوب
آسيا (هونج كونج P سنغافورة P تايوان P كوريا الجنوبية) وغزو منتجاتها للبلدان
الصناعية P ˆا أدى في بعض الحالات إلى التأثير سلبا في بعض الصناعات
المحلية داخل هذه البلدان. وهو الأمر الذي دفع بهذه البلدان للإمعان P في
حقبة الثمانينيات P في سياسة الحماية وفرض القيود التعريفية وغير
التعريفية على الصادرات ا 7صنعة وشبه ا 7صنعة الآتية من البلاد النامية
عموما.
ومهما يكن من أمر P فإنه في ضوء هذه التغيرات التي شهدتها الرأسمالية
على صعيد كل بلد على حدة وعلى الصعيد العا 7ي ككل P في ربع القرن
ا 7اضي P تطورت البطالة لكي تصبح مشكلة هيكلية وليست دورية. nعنى
أنها أصبحت طويلة الأجل P وأضحت صفة لصيقة بخصائص الهيكل
الاقتصادي والاجتماعي للبلدان الصناعية الرأسمالية P وأن التغلب عليها P
من ثم P يرتبط بتغيير هذا الهيكل( ٤). ويكفي هنا أن نلقي إطلالة سريعة
على الجدول W رقمي ( ٢  ١) و ( ٢  ٢) P لكي نرصد هذه الحقيقة. فقد ارتفع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق